الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

حاتم الأنصارى .. همة وهم


الواحدة من ظهر الأول من أكتوبر (2009) هى آخر ساعة من امتحانات سنته التمهيدية للماجستير طوال خمسة أيام خلت فى قسم الدراسات الأدبية بكليته دار العلوم ، الساعة ذاتها موعد انطلاق رحلته إلى المملكة العربية السعودية للعمل موجها تربويا ومدربا تنمويا لمدرسى ودارسى اللغة العربية ، الساعة ذاتها موعد وداع حبيبته التى ناضل من أجل حبها وظفرا بدبلتهما من أسبوع واحد فقط .. لا تستطيع ساعة فى الدنيا أن تحتمل كل هذه الطاقة إلا أن تكون .. ساعة حاتمية .

أتى بالفعل فى موعده المحدد ، طمأننى على امتحان اليوم وصولات حبره على ورق الإجابة ، على لقاء الوداع وخلجات نفسه لفؤاده ومالكيه بهذه الأرض ، طمأنته على كتبه التى حزمت وصنفت ما بين علم وأدب ، على القرصات المدمجة التى طلبها فى آخر لحظة ليستكمل تعلم الفرنسية حتى تكون فى مستوى الإنجليزية ، وبرامج الحاسب المطورة لعرض المعلومات ، آه وأخيرا تذكرت دورات مصورة فى ركوب الخيل ، وبعد الانتظار ، فتحميل الحقائب ، فاستلام تذكرة الصعود ، تقف الحياة من حولنا لحظات للوداع .. يقول : أستودعكم الله أحلامكم ..

هذا إذن هو ، وهذه إذن هى ساعة واحدة من حياته ، بكل أبعادها ودقاتها ، نعم إنه يستطيع أن يفعل كل ذلك وأكثر بكثير ، فطوال الفترة التى مضت قبل هذه الساعة لم أتوقع أنه كان يكمل ساعة نوم واحدة فى اليوم ، لم أكن أصدق ذلك منذ ثلاث سنوات ، لكن كيف لى ألا أصدق الآن وأنا أعرف أن له همة لا ينال منها تعب ولا نصب ، ولديه هم لا يقوم به إلا قرقد مثله ، وما عجبت مما يكون منه فى ساعة ، لأننى رأيت ما كان منه فى أربع سنوات خلت ..

ليسانس اللغة العربية وآدابها والدرسات الإسلامية من كلية دار العلوم ، هذه هى الشهادة الجامعية .. ثلاث دبلومات إحداها الثالث فيها على الجمهورية فى الخطوط العربية من مدرسة خليل أغا لتحسين الخطوط العربية ، والأخرى فى التخصص فى الخط العربى والتذهيب ، والثالثة فى البرمجة اللغوية العصبية وعلومها ،وعشرات الشهادات من دورات متخصصة فى التنمية البشرية واللغات ، والحاسب الآلى ، والخطوط ، وتعليم العربية لغير الناطقين بها ، وهذا كله عن الدراسة والعلم .

وكفى بها أن تكون شاغلا للفتى ، يحصل منها حتى ينطلق فى حياته لكنه كان ومع كل هذا يعمل عضوا بلجنة تأليف المناهج بقسم اللغة العربية للناطقين بغيرها بالجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية فرع القاهرة ، ومدرسا للخط العربي لغير الناطقين بالعربية بمركزى لسان العرب والديوان لتعليم العربية للناطقين بغيرها ، وخطاطا مساعدا في تدريس دورة الخط العربي في صيف 2007 بجامعة حلوان ، وفي ورشة الخط العربي بمعرض سوزان مبارك لكتاب الطفل لعامي 2007 وَ 2008 ، وخطيبا منبريا طوال هذه الفترة ، ومدرسا خاصا درس لما يزيد عن 40 طالب وطالبة من أكثر من 10 دول مختلفة حول العالم ، وهذا عن العمل بجانب الدراسة .

أما عن القراءة والتأليف ، فلم يسعنى أن أنقل من دفتره الخاص كل كتاب قرأه ، وبجانبه ما استفاد منه ، وما يمكن أن يفيد به ، وكم مرة قرأه ، وأين وضع منه فى شعره أو نثره ، وما أسعده عندما يقدم على قائلا الليلة سأكون عريسا ، نعم عرسه ليس كأعراس الناس ، إنما هو يفض كل بضعة أيام بكارة كتاب هنا أو ديوان هناك ، ويظل طوال الليل يجالسه ويستمتع به ، كأنه عروسه بالفعل ، وترى أثر كهرباء السعادة على وجهه انفراجا ، وعلى عينه اتساعا عندما يقابلك صبيحة ليلة من هذه الليالى .

وظننت أن الأمر يقف عند العلم والدراسة ، والعمل الخبرة ، والقراءة والبحث ، ولكن مع كل هذا فقد ارتضى لنفسه أن يكون إخوانيا يسير فى الصف ، يفتخر بإرث هذه الجماعة المباركة ، ويؤدى دوره فيها بكل تقدير وإجلال ، وفوق كل هذا لم يمنعه عمله هناك من أن يكون وتدا فى نشاط كأبجد نائبا لرئيسه طيلة عامين من عمر الفكرة وتطبيقاتها .

ولا يقف الأمر عند هذا ، وأين يذهب القرآن وحفظه ، والفقه وفهمه ، والشعر ونظمه ، والحب وشوقه ، والخيل وركضه ، عوالم وعوالم ، تسبح كلها فى تسابق محموم فى فلك ذلك الفتى ، تسطع نجوما حول هذا الفرقد ، فلا فترت تلك الهمة ، ولا غيض ذاك الهم .



فى الحلقات القادمة

ريشة وقلم - مجون ملتزم - لغة وتنمية - أحلام كندية

الثلاثاء، 26 مايو 2009

حاتم الأنصارى .. المشاهد الأولى


وفقا للفلك " الرابع " من " الفراقد " تأتى هذه التدوينات

(1)

صيف 2004 – العريش

بعد أن حشرت كل ما أستطيع حشره فى حقيبة كتف صغيرة ألقيت بها على ظهرى ، انطلقت مسرعا مع شروق الشمس ، وقفت على المحطة فلا مواصلات ، أوقفت أول سيارة أجره مقبلة ، لحظات من انطلاقها وبدأت ألتقط أنفاسى ، الشارع خاو تماما ، آخر طالب ينزل فى هذا الوقت قد اختفى مع انتهاء امتحانات الثانوية العامة منذ أيام ، لكن هناك شخص ما يجلس على المحطة المقبلة ، يرتدى زيا رياضيا بألوان فاتحة ، ومعه حقيبة بنفس حجم حقيبتى ، قد يكون أحد المشتركين معنا فى المعسكر ، مر بذهنى ذلك ثم ضحكت من هذا الخاطر الطفولى ، فهل كل من ينزل فى هذا الوقت سيعسكر معنا !

وصلت قبل الموعد ، الجميع هنا ، محمد رفعت .. أيمن فرج .. أحمد سمير .. عبدو بن خلدون .. عمرو طموح ، مع أول حافلة تصل نصعد جميعا ، وتنطلق الرحلة ، وتنطلق الأدعية فالأناشيد فالمسابقات فالنائم منا والمتأمل فى صحراء سيناء والغارق فى المرح مع إخوانه ، وما هى إلا ساعات حتى وصلنا لأرض المعسكر، انتظمنا طوابير ، ووقف أمامنا ذلك الرجل الأسمرالصموت الذى يرافقنا من أول الرحلة ، ولا تصدر منه إلا إيمائات فإذا الكل حوله يلبى ويطيع ، إنه القائد شاهين ، أخذ بصوت مجلجل يوجه السرايا وينظم الصفوف ، ويشكل اللجان ، ويشرف على نصب الخيام ، حتى إذا استقر كل فريق فى خيمته ، أطلق صافرته ثلاثا فانطلق الجميع ينتظمون صفوفا تحت لواء المعسكر الكبير ، ومع أول تجمع للجميع اكتشفُ أن ذلك الشخص الذى لمحته فى الصباح معنا فى المعسكر قد وصل فى آخر حافلة .

مع غروب الشمس بدأ الجو يصفو ، واستقر كل فى مكانه ، فخرجت من خيمتى أتفقد المكان ، وإذا به يقف على حدود المعسكر ، يتطلع فيما حوله ، يملأ صدره بالهواء حينا ، ويطرق بعينه إلى المسبحة فى يمناه حينا آخر .
- السلام عليكم
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
- حضرتك ساكن فى الزهراء ، أليس كذلك ؟
- تعرفنى ؟
- لا
- تقابلنا قبل ذلك ؟
- لا أظن
- إذن كيف عرفت ؟
- رأيتك صباح اليوم تقف على المحطة التالية لمحطتى .
- ( اتسعت عيناه قليلا ) ملاحظة قوية ، ( بابتسامة عريضة ) أخوك حاتم الأنصارى ( وكررها ثانية ) حاتم أوس الأنصارى .
- ( مبادلا إياه الابتسامة ) أنا أحمد أبو خليل .



(2)

أول أيام الدراسة – جامعة القاهرة

وطأت قدماى الجامعة فى أول يوم دراسى وأنا على يقين بأننى لن ألقى اليوم أحدا أعرفه على الإطلاق ، قد ظللت أياما أسال كل أصدقائى وزملائى ، ما من أحد أتعسه مكتب الحظ ( التنسيق سابقا ) بالالتحاق بإحدى كليات جامعة القاهرة ، قد كرمنى الله بالفعل بكلية دار العلوم ، لكن المسافة جد بعيدة ، وكلهم ذهبوا لعين شمس .
فوجئت بأن الكلية خاوية على عروشها ، لا محاضرات اليوم ، وإلى نهاية الأسبوع ، هكذا قال لى أحد طلاب رعاية الشباب ، فقررت أن أتجول قليلا فى الجامعة ، نزلت من سلم الكلية وانحرفت يمينا ، خطوات قليلة ، وبرز أمامى بين مجموعة من الطلبة ، لم ينتبه لى ، اتجهت نحوه ، وسلمت ..

- ياه كنت أظن أننى لن أجد فى الجامعة أحدا أعرفه .
- الحمد لله الذى جمعنا على غير موعد مرة ثانية .
- فى أى الكليات أنت ؟
- أنا فى دار العلوم
- ( بفرح شديد ) حقا ، أنا ايضا فى دار العلوم .
- عظيم جدا ، نراك لاحقا .
- !

لم ارتح مطلقا لهذا اللقاء ، فإذا كان من الطبيعى ألا نقضى وقتا أطول فى المعسكر حيث كل فى شغل ، وكل فى سرية ، فمن الطبيعى جدا أن نتقارب بعدما أصبحنا فى الكلية ، ولم يكن هذا هو حال ذلك اللقاء وحسب ، بل ظل هذا الوضع لعامين ونصف العام من هذا التوقيت ، وكان السبب الأول فى عدم التوافق هو اختلاف الوجهات ، فبنقاش حاد بعد أول لقاء ، رأى هو أن العمل والدعوة يجب أن تكون فى كيان قائم بالفعل ، وأن كل من يخالف أو يزاحم هذه الكيانات ساقط من نظره ، لأنه خالف الطريق الواضح ، واتبع الشعاب ، ورأيت أنا أننى لا أدخل فى دعوة أتحمل أخطاء أصحابها صغرت أو كبرت ، فما يضيرنى أن أنطلق بأفكارى ، وأرض الواقع تحتمل الكثير من المشاريع والأفكار .


(3)


منتصف الفصل الأول من الفرقة الثالثة – أتوبيس727

مر على بدء نقاشنا أكثر من نصف ساعة .. من المرات القليلة التى قابلته فيها وتشاطرنا الطريق ، قابلته فى عربة المترو ، وطاف بنا الحديث ، حتى وصلنا إلى المحطة وركبنا حافلة إلى المدينة ، بدأ يتحدث عن فكرة السفر للخارج فور التخرج ، عارضته بهدوء : أنا أرفض هذا المبدأ لأنه يؤخر شيئا أهم .
- ما هو ؟
- ( بشىء من الاعتزاز ) التكوين المبكر للأسرة .
- ( باعتزاز أكبر ) ولماذا التفلسف ، تقصد أن يخطب الفتى طالبا ، ويتزوج بعد التخرج مباشرة .
- ( متحفزا للدفاع عن فكرتى ) نعم بالطبع ، وينخرط الطالب من أول سنة فى الكلية فى سوق العمل كى ..
- ( قاطعنى بهدوء ) ها أنا أخطط للسفر فور تخرجى ، وبالفعل أعمل منذ الفرقة الأولى ، و.. ( رافعا عينه إلى دبلة فى يده الممسكة بماسورة الأتوبيس ) وأيضا خاطب .

وقعت الكلمات الثلاثة المتابعة على وقع الصاعقة ، وفى لحظة واحدة تحول حاتم الأنصارى أمامى إلى ملك كريم كدت أهوى لأقبل يديه ، بل وقدميه ، فقدت وعيى للحظات ، حلم حياتى أن أخطب وأنا طالب ، لم أر شخصا قبلى يعمل أثناء دراسته أصلا ، فظننت نفسى شيئا ، بدى الارتباك على واضحا ، لحسن الحظ أن خلا المقعد الخلفى من الأتوبيس ، فسريعا ارتمينا عليه ، وبدأت لاهثا أسئله ، وأعب من كل التفاصيل التى أستطيع أن أحصل عليها ، عن طبيعة عمله التى خولته فى هذا الوقت القصير أن يخطب ، وفى الوقت ذاته ينجح دراسيا ، لم يتبق غير دقائق ، والرجل يضن بالمعلومة تارة ، ويسخو بها تارة أخرى ، وهكذا حتى انتهى اللقاء ، ونزلت من الأتوبيس أكتب هذه اللحظة فى التاريخ ، وأفرد صفحة أعلقها على حائط مكتبى ، مكتوب عليها :



حاتم الأنصارى
الهدف : المدة
دخول دائرته الأولى : 6أشهر
تحقيق ما وصل إليه : سنة ونصف
التعلم منه : مدى الحياة


فى الحلقات القادمة
بإذن الله
همة وهم - ريشة وقلم - مجون ملتزم - لغة وتنمية - أحلام كندية