الإثنين 11 / 8 ، استعد حذو آذان العصر للنزول ، أستقل سيارة تنادى لأول مكرم ، أمر على حديقة الطفل فأتذكر لحظات فى وجهه يكون فيها طفولى ، بعينين صافيتين ، وبسمة واسعة ، لا يسعك إلا أن تقابلها بمثلها مهما كانت همومك ، من المفروض أن نتقابل بعد عشر دقائق ، هل سيخالف قواعده ويأتى فى موعده هذه المرة ، لا أظن ، هل سأقف وآراه من بعديد فأوقف الميكروباس حتى يهرول إلى عقابا له على تأخره ، كآخر مرة ذهبنا فيها سويا إلى هذا المكان ، لكن هذه المرة لم أنتظر ، لا طويلا ولا قليلا ، لأننى أعلم لو ظللت قابعا فى مكانى لأيام فلن يأت معى ، يجب أن أذهب وحدى الآن ، وإلا تأخرت ، ويضيع على وداع صاحب آخر لى .
لم تلبث السيارة أن جاوزت النادى الأهلى حتى بدأت تنتشر أيمن عينى منظر رمال الصحراء الذى يُنطق الذكريات الخرس ، ويستنفرها فإذا هى خيل بريه ، أو أتن وحشية ، تركض على رمالها الناعمة حينا ، والقاسية حينا ، والتى هى فى كل الأحوال دافئة جدا ، بل ساخنة جدا .
معسكر
من المكان الذى قضى فيه محمد رفعت صباه وشيئا من فتوته ، من مدرسة الرضوان بالحى السابع التى قضى فيها سنوات عمره الدراسى ، التى أصبح فيها " نجم " المدرسة ، يعرفه الفراش قبل المدير ، والأستاذ قبل الزميل ، من أمام المدرسة تنطلق حافلة رحلات تقلنا إلى معسكر الشباب بالعريش ، زملاء يعرفهم ، وآخرون لا يعرفهم ، معسكر ضخم يضم طلاب السنوات الثاناوية المتميزين من كل إدراة تعليمية ، يخرج من باب الحافلة التى وصلت لتوها رجل فى الأربعينيات من العمر ، قوى البنية أسمر الوجنات ، حاد الملامح ، ثاقب النظرات ، أمرنا بكل حزم أن نصعد إلى مقاعدنا فورا كى يبدأ المسير .
القرية الأولمبية للشباب ، ربما اسم كبير ، لكن الحقيقة أنها قطعة فى جوف الصحراء ، فضاء كبير به عشرون خيمة يتوسطه العلم ، ويحيط به ثلاثة مبان ، مطبخ كبير ، وحمامات ، وقاعة فارغة ، ويبدوا أنها لم تطأها الأقدام منذ فصول ، وأكثر من مئتى طالب من المفترض أن يحويهم هذا المعسكر ، بمعدل 15 طالب فى كل خيمة ، والباقى فى المطبخ الواسع يحسدهم زملائهم لأنهم لا ينامون على مراتب خرجت أحشاؤها ، و فرشت بالرمال ، وبالطبع إن تقلبت يمينا تجد يد أحمد سمير ، وإن تقلبت يسارا تجد قدم محمد رفعت .
كان على سرية مدينة نصر أن تثبت جدارتها فى المعسكر ، لأنها هى بالذات ومعها مصر الجديدة محل سخرية باقى المعسكر ، على أساس أنهم شباب " بسكويت " ، حتى أن خيامهم كانت آخر الخيام المنصوبة ، ولكن التميز لم يكن له وجه واحد عند مدينة نصر ، وبالأخص عندى أنا ورفعت .
" قائد شاهين يا حبيب إحنا وراك مش هنسيب " .. " قائد شاهين يا حبيبنا يا مأكلنا عيش وجبنة " ، كانت هذه هى أول الشعارات التى افتتحت بها سريتنا طابور اليوم الأول ن وبالطبع تأليف محمد رفعت ، وبالطبع لم يستطع أحد أن يتصدر الهتاف بها ، فلا أحد يريد أن يمارس ( على الصبح ) تعذير القائد شاهين زحفا على الرمال ، ولكن واعجبا إذا ترى أسنان القائد شاهين تبتسم - لأول مرة - لرفعت فور ترديدنا لشعار السرية ، وينفجر المعسكر فى الضحك قبل أن تنطلق صافرة القائد معلنة الانضباط مرة أخرى ، ولكن بعد أن أصبحت سرية مدينة نصر لها دور مميز لا فى رفع علم الطبور ولا الزحف على الرمال ، ولكن فى أشياء أخرى ، وحتى إمامة الصلاة لا أعرف من الأخ الذى خدع قائد المعسكر وقال له أحمد ومحمد ، أحدهم للمغرب والآخر للعشاء .
كان مشرفو وزارة الشباب لا يكفون عن زيارة المعسكر والاطمئنان على أن الوجبات سليمة ( عيش وجبنة وعسل ) ، وبطاطس مسلوقة فى الغداء ، وأن الأوتاد مضروبة جيدا فى الرمال ، وأن المحاضرات الكشفية عن الشجاعة والانضباط والإخوة تسير بانتظام ، ولكن هذا الانتظام ( الروتينى ) لم يكن يعجب القائد شاهين ، فما كان منه إلا أن وجد أحد المشرفين فى مرة وقد حضر أثناء محاضرة المحافظة على الإخوة ، والرباط الكشفى ، فما أن سمعنا من خارج القاعة صراخ وعويل ، ولم يكن إلا صوت محمد رفعت فهروت نصف القاعة للخارج وتسمر النصف الآخر فى مكانه ، وبعدها بدقائق اكتشف الجميع أنها مجرد درس عملى من القائد شاهين فى مساعدة الزميل ، الذى كاد أن يأكله وحش مفترس خارج القاعة ، والحقيقة أن صوت صراخ رفعت كان يوحى بأن العنقاء ستختطفه ، لا أن ديبا ظهر له ، وفراسة ذلك الرجل - القائد شاهين - هى التى كشفت له عن أن رفعت هو الشخص القادر على تمثيل هذه الدور بإتقان حتى أرعب نصف المعسكر ، وعلى رأسهم مشرف وزارة الشباب بالطبع .
لكن كل هذا لم يكن مبررا لكى يحفر اسم محمد رفعت فى ذاكرة كل من حضروا هذا المعسكر ، وإن قابلتهم اليوم لا يكادون يتذكرون زملاء خيمتهم ، ولكن بالطبع يتذكرون محمد رفعت ، الذى جعلهم هكذا هو العرض المسرحى الذى قدمته سرية مدينة نصر فى آخر يوم من المعسكر ضمن الحفل الفنى الختامى ، حيث أخذنا نفكر فى عرض مسرحى نقدمه وكان أمامنا ساعة من الزمن كى نؤلف ونتدرب على نص قصير نقدمه قبل الرحيل مباشرة ، وكان الاقتراح " المطرقع " أن نمثل مشاهد ساخرة من أيام المعسكر ، وبطلها بالطبع هو القائد شاهين ، أو محمد رفعت .
مشاهد لا يمكن لأى شخص أن ينساها من المعسكر ، مشهد القائد شاهين وهو يلقى بهاتفه المحمول على الأرض ويدعوا كل قادة الفصائل ومن بعدهم الكشافة إلى إلقاء هواتفهم على الرمال ثم يصادرها لمدة أربعة أيام ، وكيف حوله رفعت فى مسرحيته إلى إلقاء لفرشة شعره على الأرض وطلبه من كل الممثلين أن يلقوا بفرشهم ويُمنع منعا باتا تسريح الشعر لمدة أربعة أيام ، موقف اعتراض القائد على زحف أحد المعسكِرين السىء ، وخلعه لفلنته وإلقاء جسده على الرمال ليريه كيف يكون الزحف ، وكيف حوله رفعت إلى مشهد ( يفطس من الضحك ) على طريقة محمد صبحى فى مسرحية تخاريف وهو يستعرض عضلاته ، قبل أن يرمى بجسده ويعوم فى بحر الرمال ، ثم يأمرنى بأن أخلع أنا الآخر ملابسى ( كأحد مساعديه فى العرض ) ويصر على ذلك كمشهد عادل إمام فى مسرحية الزعيم ، مشاهد ومشاهد ، أنست الناس ثلاثة أيام فى الصحراء .. الصحراء .. ويختفى اللون الأصفر ثانية .
يختفى اللون الأصفر بقرب وصولى إلى المطار ، أنزل من المكروباس وأتوجه مباشرة إلى قاعة الركاب ، لأجده ينتظر هناك وحيدا ، أحمد شلبى يودع القاهرة إلى السعودية بدون محمد رفعت ، أحمد شلبى أودعه اليوم منفردا ، وليس معى محمد رفعت ، سأعود هذه المرة وحيدا ، نعم سأعود وحيدا يا شلبى ، وأتمنى ألا أحضر لاستقبالك بعد شهر وحيدا أيضا ، أتمنى ذلك ، وأسفا لا أملك غير الأمانى تحدوها الذكريات .
نكمل فى الحلقات القادمة بإذن الله
مصيف - مظاهرة - جامعة - برنامج
- حـب - اعتقال - براءة
هناك 6 تعليقات:
يااااااااااااه ..
معسكر العريش ..
يالها من ذكريات ..
بجد يا أحمد بتفكرني بذكريات لا أنساها ..
كمل بقي عايزين نسمع كل حاجه من طأطأ لسلام عليكم
ياريت متنساش اي حدث
يا الله
ذكرتني يا هذا
فاصل الصيحات.. كان أجمل ما في المعسكر
"قائد شاهين يا أسطورة.. انت الأصل و هما الصورة"
"يا عريش يا عريش.. فيكي بحر وللا مفيش"
"فوق الجبل.. تحت الجبل.. لما تشوفنا راح تنهبل
فوق التل.. تحت التل.. لما تشوفنا راح تختل
فوق النار.. تحت النار... لما تشوفنا راح تنهار"
وبالطبع هذا الأخير كان دوما ينطلق بصوت رفحت
أعود مرة أخري للتعليق
كانت هي المرة الأولي التي أقابله فيها...
وكانت المرة الأولي التي أقابلك فيها كذلك...
وكذلك الحال مع كثيرون ممن أعتبرهم الآن من المقربين إلي، أو ذوي المكانة الرفيعة لدي...
لا أجد ما أكتب حقا
فقط.. أذكر الآن... ما قاله القائد شاهين و نحن في الحافلة فور الانطلاق من أمام مدرستكم... أنها ستكون أصعب ثلاثة أيام بلياليهن تمر علينا غالبا في حياتنا، ولكن.. بعد مضيها.. ستكون أحلاها ذكري... ولا أقول إلا... صدق وربي
في انتظار تحقيق ربي لآخر ما كتبت.."براءة".. و أظنها يمكن أن تذيل ايضا... بشرف الكفاح من أجل الرسالة.. و الموت سعيا علي درب إعلاء رايتها..
و لنقل "...شرف-سعي-خلود"
سبقتني بالكلام عن معسكر العريش
أحلى 3 أيام ف حياتي بجد...
4 سنين و لسى فاكر تفاصيل الأيام ده كأنها امبارح...
معسكر العريش كان علامة كبيرة أوي على الطريق...بتدل على صحته و سلامته و أنه بيوصل للهدف المطلوب
و كان فعلا العلامة الفارقة فيها ...المخلى سبيله حاليا ابن رفعت
ربنا يجعل هذه افترة ف ميزان حسناته باذن الله
رضي الله عنا وعن وقت قدر الله فيه التقاء بين الجسد والروح، مهيب أن تذكرني هذه الأيام العظيمة أحمدي الحبيب، ومقنع هو كذا عالم المدونات أن أذكر أمام أنفاسه هذه السويعات التي لم أذكرها معك على الحقيقة كما قرأتها الآن.
وعن الأستاذ محمد رفعت أذكر بما لا تخطئه الذاكرة ولم تخطئه أنه كان مبرَّزا (على اسم المفعول لا الفاعل) وكانت علاقته بالقائد الرجل محمد شاهين علاقة مميزة، حتى من قبل التحرك بالحافلات.
وأخيرا أقول أنه مثل لي تحد مهم أعتقد أن وقته لم يأت موعده إلى الآن، إلا كلامك المتكرر عنه في كثير من موافق الحياة قربني منه من غير علمه وقصده؛ فحق له أن أخرق صمت أرومه وأكتب له في الله.
إلى أن أراك بكامل حجمك رفعت سلام الله لك.
أما أنت أحمد فلعلك تعزف بهذه التدوينة -كعادتك- لحن حب جديد!!
حاتم أوس الأنصاري
إرسال تعليق