- الرجل السعودى حدثنى ثانية
- أى رجل ؟
- ذلك الذى يطلب منى أن أعمل لديه فى الرياض
- نعم ، تذكرته ، هل قبلت ؟
- فى الحقيقة عرض على نصف المبلغ الذى أريد محصِّـلته بعد عامين لدراسة الماجستير فى كندا أو أمريكا .
- أفهم من ذلك أنك لم تقبل !
- قلت له سأرد عليك بعد يومين
- وسترد بالرفض !
- طبعا ، لا يمكننى تحت أى حال من الأحوال أن ..
- ( قاطعته ) ، لم لا تخبره عن طموحك هذا ؟
- بمعنى ؟
- قل له أنا أطمح لتحصيل ضعف المبلغ ، وأرسل له سيرتك كاملة ، عله يحمِّـلك من الأعمال – عنده – ما يضاعف به راتبك ، أو يجد لك عملا مصاحبا يصل بك إلى نفس الراتب جنبا إلى جنب مع عملك له .
ما أيسره من موقف لو كنت وافقته ، وسكت ، وفرحت بمقعده جوارى ولو بعض حين ، وما أقساه من موقف إذ أسلمه السكين وأقول : يا صاحبى افعل ما تطمح ، ستجدنى إن شاء الله من الصابرين ، على فراقك ، على وحدتى ، افعل ما يجب أن يفعله رجل مثلك .
(2)
عصرا – أمس – أسفل مسكنى
- أخيرا يا حاتم ، ستسافر الليلة ، منذ الثلاثاء الماضى وأنت على سفر ، ويقدر الله فى كل مرة أن تؤجله هذه الورقة أو ذلك التصريح ، واليوم ..
- ( بانقباض ) واليوم قدر الله ذات التقدير .
- ( باندهاش ) لا تقل ، ماذا حدث ، لم تحصل على تصريح العمل ؟
- ذهبت مبكرا ، وظننت أن ينتهى فى ساعة أو اثنتين
- قد حذرتك ، لم حجزت الطائرة الليلة وأنت على حرف ؟
- أخبرنى الموظف أن أطلبه " مستعجلا " لظروف السفر ، واعتمد الضابط ذلك ، وصار أمامى ثلاث ساعات على استلامه .
- إذن حدثت مشكلة فى مصاريف صدوره .
- حدثت ، حتى اضطررت إلى استبدال مائة ريال بمائة جنيه فقط ( ضحك ضحكة خفيفة ، ثم استمر متأثرا ) لكن الموظف أخرنى ثامية إلى الرابعة .
- أواه من هذا الروتين ، هو ثانى أكبر آفة فى تلك البلد بعد الـ ..
- نعم ، هو ذاك ، عطلتنى الآفة الثانية ، وأوقفتنى الأولى تماما !
- ( فى صدمة عنيفة ) الأمن !
- ( تابع فى هدوء ) أخيرا نادى الموظف : حاتم الأنصارى ، أوراقك لم تمر من الفرع الأمنى ، راجع اقرب فرع لأمن الدولة فى منطقتك ، قد يستغرق الأمر أسبوعا أو شهرا أو أبدا .
- ( ضحكت ضحكة قاسية ) الأمن ثانية ، يستأصل أحلامنا ، أفرادا وجماعات ، وما " أبجد " منا ببعيد !
وصلنا ساعتها إلى آخر شارع فى مدينة الزهراء الذى يشرف على صحراء ممتدة من مدينة نصر ، سرحت فى الصحراء وأخذت أتذكر ما حدث لأبجد ، وانطلق هو فى الحديث عن الخطط البديلة بشكل لا واعى ، بقاء فى مصر .. مستحيل ، هجرة غير شرعية .. من الممكن ، لا أولا أهاتف الرجل السعودى الآن ، وأشكره على تحمله لى كل هذه الفترة ، وأعتذر له ، أعرف أنه لو صدر لى التصريح بعد أسبوع لن يكون مجديا ، لكن كيف سأقضى بضعة أشهر أخرى فى هذا البلد ، هل نفتح ذلك المركز لتعليم اللغة العربية يا أحمد .. أحمد هل أنت معى ؟
- لا لست معك .. أنا مع أن تتجه إلى بيتك حالا ، ترتدى بذلتك الأنيقة السوداء ، تحزم حقيبتك ، تودع أهلك وتنطلق إلى المطار ، تعبر البوابة بكل هدوء ، قد تمر ، وقد تمنع فتهاتف السعودية وتخبر الرجل بأنك بذلت كل ما يبذل ، وتعود لتروى القصة لأهلك وأصدقائك ، عندها فقط يمكننا أن نتحدث عن المرحلة المقبلة ، وقبل ذلك لا تضع أيه سينارويهات .
استمع إلى طرحى بشىء من التعقل ، ولأن الموقف لا يحتمل الخسارة فوق ما وصل إليه ، ولأن الأمر كان أشبه بتمثيلية " بيضاء " ، حبكت كل عناصرها ، فقد وافق بالفعل ، وانطلق إلى بيته يحضر حقيبته التى سيتركها عندى لأن ليس لها دورا مهما فى " التمثيلية " ، فإن احتاج لها ألحقها به ، وانطلقت أنا إلى البيت أنتظر مكالمته .
وفى أقل من ساعة تم إعداد كل شىء ، وبعد 4 دقائق من رنة واحدة على هاتفى وصلت لأول شارعه ، قابلته مبتسما ، رأيته مرتسما ، ببذلته السوداء ، وقميص ناصع أبيض ، ربطة عنق فيها اللونين معا ، لمعة عينيه من خلف النظارة ذات الإطار الأسود الدقيق ، وبسمة شبه حائرة ، سلمت عليه بمقدار ما يسلم الرجل على مفارقه لسويعات ، كانت الشمس قد أخذت فى المغيب ، تسلمت منه الحقيبة وحثثته على الانصراف كيف لا يتأخر ، انطلق مسرعا لا يحمل فى يده إلى حقيبة الحاسب الشخصى وبها أوراقه كاملة ، وانطلقت أنا للبيت .
(3)
الأحد 24/5/2009 – 08:30 مساء
أى بعد أن فارقنى بساعة ونصف الساعة ، أسمع صوته على الهاتف : أحمد ، فى الحقيقة أنا عديت .. آه فعلا عديت الحمد لله ..
- ( فى فرحة عارمة ) هل تحلم ، أقصد هل أحلم ، قل لى بالفعل أنت هناك؟ ، أنت حر الآن ، لن تشرق عليك شمس مصر غدا ؟
- بالفعل ، أنا أحاول أن أستوعب الأمر حتى الآن ، صحيح ، سأحاول أيضا أن أسأل كيف يمكن أن تصل إلى الحقيبة .. أمامى بعض الوقت ، سأنطلق فى تمام الثانية عشرة .
- حسنا سأتابعك سأتصل بك بعد قليل لأعرف الأخبار ، مرحا يا صاحبى مرحا .
انتهت المكالمة ، وما إن أغلقت هاتفى حتى زالت عنى نشوة المفاجئة ، وانقشعت سحابتها عن أمر مؤلم ، غاية الإيلام ، لقد سافر ، سافر بالفعل ، من غير أن أودعه ، من غير أن أضمه ضمة تبقينى شهورا أو أعواما على قيد الحياة ، لم يكن الأمر برمته إلا تمثيلية ، وها هى قد تحولت إلى واقع ، فرح لأنه سافر ، لأن الله اختارنى كى أكون سببا لذلك ، فى التفكير وفى التدبير معا ، صعق لأنه رحل وراحلتى معه ؛ فلطالما انتظرت طويلا تلك اللحظة التى يخبرنى فيها أن طائرته بقى عليها من الوقت أياما أو ساعات ، حتى أتهيأ ، حتى أخرج روحه من جسدى رويدا رويدا ، نزعا خفيفا ، أكتب عنه فتخرج ، ألقى عليه ذكرياتنا فتخرج ، لكن فقده يأبى إلا أن يأتى فجأة ، وها هو قد ذهب ، وآن للذكريات أن تخرج لتبقى ..